طرائف.. وظرائف

طرائف.. وظرائف 
التاريخ، الصحيح منه طبعاً، له فضلٌ كبيرٌ علينا، إذ حمل لنا مجلّداتٍ عظيمةً ووفيرةً من العِبَر والدروس والمواعظ، حتّى أصبح علينا حُجّةً ماثلةً بل على الجميع، فهو يدعو إلى مطالعته، وإلى مراجعته، للاستفادة من التجارب السالفة والقصص ذات العِبَر والمغازي، وقد جاء في كتاب الله عزّوجلّ قولُه تعالى: « لَقَد كانَ في قَصَصِهم عِبرةٌ لأُولي الألباب.. » [ سورة يوسف:111 ]، وقوله جلّ وعلا: « قُلْ سِيروا في الأرضِ فانظروا كيف كانَ عاقبةُ الذينَ مِن قبلُ.. » [ سورة الروم:42 ]. وجاء في الكتاب الذي كتبه أميرالمؤمنين عليه السلام إلى ولده الحسن المجتبى عليه السلام قوله: « أَي بُنيّ، إنّي وإن لم أكُنْ عُمِّرتُ عُمُرَ مَن كان قَبْلي، فقد نظرتُ في أعمالِهم، وفكّرتُ في أخبارِهم، وسِرتُ في آثارهم، حتّى عُدتُ كأحدِهم، بل كأنّي بما انتهى إليَّ مِن أمورِهم قد عُمِّرتُ مع أوّلهم إلى آخِرِهم، فعَرَفتُ صَفْوَ ذلك مِن كَدَرِه، ونفعَه مِن ضررِه.. » [ نهج البلاغة: الكتاب 31 ].
وهذه بعض الأخبار والحكايات: الطريفة، والظريفة، نستفيد عِبرَها:
رُوي أن الوزير العالم الصاحب بن عبّاد كان في صغره إذا أراد أن يذهب إلى المسجد تُعطيه والدته ديناراً وتقول له: تَصَدّقْ به ـ يا بُنيّ ـ على أوّل فقيرٍ تلقاه. فصارت هذه عادته حتّى كبر، وكان يقول لخادمه: ضَعْ تحت وسادتي ديناراً في كلّ ليلة حتّى لا أنسى أن أتصدّق به.
وفي إحدى الليالي نسيَ الخادم أن يضع الدينار تحت الوسادة، فلمّا انتبه الصاحب عند الصباح وأراد أن يأخذ الدينار ليتصدّق به على عادته لم يجد شيئاً، فتشاءم من ذلك فنادى على الخدم: إحملوا فراشي هذا ـ وكان من ديباج ـ وأعطوه إلى أوّل فقيرٍ تَلقَونه. فحملوه، فكان أوّل مَن لَقَوه رجلاً علويّاً أعمى تقوده امرأة ظهرت عليهما آثار الفقر والفاقة، فقالوا له: هذا لك، سألهم: ما هو ؟! قالوا: فراشٌ من ديباج. فأُغمي على الرجل في الدهشة في الحال، فحملوه إلى الصاحب بن عبّاد وهو مغمىً عليه.
تناوله الصاحب فرشّ عليه ماءَ الورد، وسقاه شربةً ممزوجةً بالسكّر، حتّى إذا أفاق سأله عن أمره، فقال العلوي: سَلْ هذه المرأة، فقال الصاحب: أنتَ بيّنْ لنا حقيقة حالك، فقال الرجل: أنا علويّ النسب ضعيف الحال، وهذه زوجتي ولي منها بنتٌ زوّجناها من رجلٍ فقير، وكان كلّما يفضل من قُوتنا شيء أصرفه عليهما. وفي الليلة الماضية طلَبَت منّي أُمّها أن أشتري لها فراشاً من ديباج. فقلت لها: إنّي لا أقدر على ذلك. فألحّت في طلبها حتّى ضاق صدري، وجرى بيني وبينها كلام وخصام!
وفي صباح هذا اليوم قلت لها: خذي بيدي وأخرجيني لعلّ الله يُحدِث بعد ذلك أمراً، ويجعل بعد عُسرِ يُسراً. فبينما نحن في الطريق إذ لقينا هؤلاء وهم يقولون لي: هذا لك، فلمّا سألتُهم عنه قالوا: هو فراشٌ مِن ديباج. فمِن شدّة فرحي وتعجّبي ودهشتي أُغميَ علَيّ.
فأمر الصاحب بإحضار زوج ابنة العلوي، حتّى إذا حضر أكرمه وقدم لهم ما يحتاجون إليه من أثاثٍ ومال. وكانت للصاحب بن عبّاد بعد ذلك توفيقات كثيرة وكبيرة.
وفي الخبر: أنّ امرأةً علويّة ضعيفة الحال قد فقدت زوجها، فجاءت ـ ومعها بناتها ـ من بلخ إلى سمرقند، وكان الجوّ بارداً، فأدخلَتْهنّ إلى بعض المساجد وذهبت تطلب لهنّ الطعام، وقد مسَّها وبناتها الجوع والفقر، فقَدِمت على شيخ البلد ـ وهو رجلٌ مسلم ـ وشرحت حالها له، فقال لها: أقيمي البيّنة على أنّكِ علويّة، فأجابته: مِن أين آتيك بالبيّنة وأنا غريبةٌ في بلدكم هذا وليس فيه أحدٌ يعرفني ؟! فأعرض عنها!
فخرجت منه آيسةً وذهبت إلى ضامن البلد ـ وهو رجلٌ مجوسي ـ فشرحت له حالها، فرَقَّ لها قلبه، وأرسل معها امرأةً من نسائه وأمرها أن تأتي بها وببناتها إلى داره، فأهداهنّ أحسن الملابس، وأطعمهن أطيب الطعام، وأكرمهنّ غاية الإكرام.
وفي الليل رأى الشيخ المسلم في منامه أنّ القيامة قد قامت، واللواء منشورٌ على رأس رسول الله صلّى الله عليه وآله، وإلى جنبه قصرٌ مِن زُمُرَّد أخضر، فقال: يا رسول الله، لمَن هذا القصر ؟ فأجابه: هو لرجلٍ مسلمٍ موحِّد، فقال الشيخ: يا رسول الله، أنا رجلٌ مسلمٌ موحِّد، فقال له النبيّ صلّى الله عليه وآله: أقِمِ البيّنةَ على أنّك مسلمٌ موحِّد. فتحيّر الشيخ وقال: مِن أين ليَ بالبيّنة الآن ؟ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله: قصَدتْك المرأة العلويّة وشرَحَت لك حالها، فطلبتَ منها البيّنة وهي في بلاد الغربة ! فكذلك الآن نطلب منك البيّنة.
فانتبه الشيخ من نومه حزيناً كئيباً، وصار يبكي ويلطم، ثمّ خرج يفتّش عن العلوية فأُخبِر بأنّها في ضيافة ضامن البلد المجوسي، فطلبها منه، فأبى أشدَّ الإباء وقال له: ليس إلى ذلك مِن سبيل. فبذل له شيخ البلد ألف دينار عوضَ تسليمه العلوية، فأجابه الضامن: لا واللهِ ولا مئة ألف دينار، إنّها وبناتها ضيوفي، وقد لَحِقَني بسببهم خيرٌ كثير، ونالني ببركاتهم شرفٌ عظيم، وإن القصرَ الذي رأيتَه في المنام رأيتُه أنا أيضاً، وهو لي وأنا أحقُّ به منك، وقد بَشّرني رسول الله بذلك، وقد أسلمتُ أنا وجميعُ أفراد عائلتي على يد هذه العلويّة الجليلة، وإنّي الآن أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله وصار من المؤمنين الصالحين.
قَدِم هشام بن عبدالملك حاجّاً أيّام حكمه، فقال لجلاوزته: إئْتوني برجلٍ من الصحابة، فقيل له: ماتوا جميعاً، فقال: من التابعين فجاؤوا له بطاووس اليماني، فلمّا دخل طاووس خلع نعلَيه بحاشية بساطه، ولم يسلّم عليه بالخلافة، ولم يُكنِّه، ولم يَقُم بين يديه بل جلس بإزائه، ثمّ قال له: كيف أنت يا هشام ؟
فتعجّب هشام وغضب، وسأله: يا طاووس، ما الذي حملك على ما صنعت ؟! فتجاهله طاووس قائلاً: وما صنعت ؟! فازداد هشام غضباً، ثمّ فصّل له ما صنع، فأجابه طاووس:
ـ أمّا خلعُ نعلي بحاشية بساطك، فإنّي أخلعها بين يَدَي ربّي كلَّ يومٍ خمسَ مرّاتٍ ولم يغضب علَيّ. وأمّا عدم سلامي عليك بإمرة المؤمنين، فلأنّ بعض الناس غير راضين بإمرتك، فكَرِهتُ أن أكذب. وأمّا عدمُ الكُنية، فإنّ الله سمّى أولياءه في كتاب الله: داود ويحيى وعيسى ومحمّداً صلّى الله عليه وآله..، وكنّى أعداءه فقال: « تَبَّت يدا أبي لَهَب ». وأمّا جلوسي بإزائك، فإنّي سمعتُ أميرالمؤمنين عليَّ بن أبي طالبٍ عليه السلام يقول: « إذا أردتَ أن تنظرَ إلى رجُلٍ مِن أهل النار، فانظرْ إلى رجلٍ جالسٍ وحوله قومٌ قيام! ».
فقال هشام: عِظْني، فقال طاووس: سمعتُ أميرالمؤمنين عليَّ بن أبي طالبٍ عليه السلام يقول: « إنّ في جهنّمَ حَيّاتٍ كالتِّلال، وعقاربَ كالبِغال، تَلدَغ كلَّ أميرٍ لا يَعدِل في رعيّته ».
ثم قام وانصرف، وبقي هشام مخذولاً ولم يعتبر وما اعترف!
ورُوي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا صعد المنبر وقال: « سَلُوني قبلَ أن تفقدوني، سلوني عن طُرق السماوات فإنّي أعلمُ بها من طرق الأرض »، قام إليه رجل من ناحية المسجد فسأله: يا أميرالمؤمنين، أين جبرائيلَ الآن ؟ فنظر الإمام عليه السلام إلى السماء، ثمّ إلى المشرق ثمّ إلى المغرب، فقال له: « أنت جبرائيل »، فخفق بجناحه وصعد إلى السماء، فتعجّب الناس وقالوا: نشهد أنّك وصيُّ رسول الله، ووارثُ علمه، وخليفته في أمّته.
أمّا غير أمير المؤمنين وأولاده الأئمّة المعصومين، فكلُّ مَن ادّعى هذه الدعوى افتضح أمرُه، وظهر عجزه، وبان جهله.. كان منهم: الحسن البصري، فقد قال في مسجد البصرة
على ملأٍ من الناس: سلوني قبل أن تفقدوني! فقامت إليه امرأة فسألته: أيّها الشيخ! أخبرني عن سلمان الفارسي أين مات ؟ فقال: في المدائن، قالت: مَن تَولّى تجهيزه ودفنه ؟ قال: عليّ ابن أبي طالب، سألَتْه: كيف تمّ ذلك وعليٌّ في المدينة، وبين المدينة بُعدٌ عظيم ؟ قال: يقول الناس: إنّ الأرض قد طُوِيت له بإذن الله، فقالت المرأة له: إنّي لم أسألك عمّا يقول الناس، وإنّما أسألك عن قولك أنت، فقال: إنّه لكذلك، فسألَتْه: لمّا مات عثمان في المدينة وعليٌّ حاضر فيها، فلماذا بقيَ ثلاثة أيّامٍ بغير تجهيزٍ حتّى دُفن سرّاً في مقابر اليهود ؟
فتحيّر الحسن البصري وأُخْرج موقفه وظهر عليه العجز، فقال لها تهرّباً من الجواب: إنّكِ امرأة، والمرأة لا ينبغي أن تخرج إلى المسجد، فإن كنتِ خرجتِ من بيتكِ بإذن زوجِك فعليه لعنة الله، وإن كنتِ خرجتِ من بيتك بغير إذنه فعليكِ لعنة الله! فعادت المرأة تسأله: ما تقول في أمّ المؤمنين عائشة، هل خرجت من بيتها تحارب بإذن زوجها أم بغير إذنه ؟ فإن قلتَ بإذن زوجها فقد كَذِبتَ على الله ورسوله، وإن قلتَ بغير إذن زوجها فقد نِلتَ منها ما نلتَ منّي ( أي لقد لعَنْتَها أيضاً )، فما تقول ؟ فتحيّر الحسن البصري مرّةً أخرى وارتبك، ولم يَدرِ بماذا يجيبها، فنادى الناس عليه: أيُّها الرجل لقد فَضَحْتَنا! تدّعي هذه الدعوى الكبيرة ثم تعجز عن جواب امرأة ؟! ثمّ أنزلوه من المنبر مخذولاً، وأخرجوه من المسجد دفعاً ودَعّاً !
وكذلك جرى الحال على قتادة ومقاتل، وكانا ادّعيا ما ادّعاه الحسن البصري من قوله: سلوني قبل أن تفقدوني، فسُئِلا فلم يَحْريا جواباً ولم يكن لهما إلاّ أن قالا: لا أدري، وانصرفا خجِلَين!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا المساجد هي المباني الوحيدة الناجية من تسونامي إندونيسيا؟

كيف تختبر محبة الله تعالى والأنس به في نفسك