محكمة الصلح العائلية




img1
إن للزواج معطيات ونتائج إيجابية كثيرة ، منها ما هو معنوي كالسكن بين الزوجين بإطار المودة والرحمة ، والاستئناس والبعد عن العزلة القاتلة للروح ، ونيل رضا الباري عزّ وجل ، ومنها ما هو مادي كإشباع الغرائز الطبيعية ، وزيادة الرزق ، وامتداد النسل ؛ لذا على الإنسان العاقل بناء هذه العلاقة المقدّسة على اساس سليم وفق التشريع الإسلامي مقدِّما مشاعر الإيثار والتعاون ، وأن يحافظ عليها من الآفات والأمراض التي تعتريها .
لقد حدد الإسلام لكل من الزوجين حقوقهما داخل العلاقة الزوجية بما يضمن سلامة الأسرة واستمرارها والمحافظة عليها من التشتت ، واذا ما استقرأ المرء هذه الحقوق يجد أنها من معاجز الدين الإسلامي الحنيف ، ولم يجد الإشارة في أي دين وثقافة الى حقوق الزوجين بهذا النحو ، وليس بوسع أي دين تقديم ما هو افضل منها الى قيام الساعة .
فمن الحقوق ما هو واجب ومنها ما هو مستحب ولو رُوعيت من قبل الزوجين فلن يكون هناك مجال لتسلل المشاكل الى الحياة الزوجية ، ولكن لأن البشر مختلفون في الطبائع والأمزجة ، ولأن العلاقة الزوجية قد لا تُبنى على أساس صحيح حسب توصيات الشريعة الإسلامية لذا نجد وفي كثير من الأحيان ظهور الخلاف والشقاق بين الزوجين بما يهدد أمن وسلامة الأسرة ، وقد اهتم الإسلام بتلك المشاكل ووضع لها الحلول المناسبة ومن تلك المشاكل الشقاق بين الزوجين ، فكيف يعالج القرآن تلك المشكلة ؟
قال تعالى : (وإن خِفتمْ شِقاقَ بينِهما فابعثوا حكماً من أهلهِ وحكماً من أهلها إنْ يُريدا إصلاحاً يوفقِ اللهُ بينهما إن اللهَ كان عليماً خبيراً ) النساء آية35
تتضمن هذه الآية بحثان :
الأول : البحث الاجتماعي
تقول الآية الكريمة عندما يظهر النزاع والخلاف بين الزوجين فعلى الأهل أن لا يقفوا مكتوفي الأيدي بل يتدخلوا للإصلاح بينهما عن طريق إيفاد الحكمين من أهل الزوج وأهل الزوجة ليتفاوضا ويقرّبا وجهات النظر فيما بينهما ؛ فالفعل ( فابعثوا ) اي وجّهوا حكما من قوم الزوج وحكما من قوم الزوجة لينظرا فيما بينهما ، واختُلِف في المخاطَب بإيفاد الحكمين من هو ؟ قيل هو الحاكم الشرعي الذي يترافع الزوجان عنده كما سنشير إليه في البحث الفقهي .
كما ذكرت الآية إن على الحكمين التفاوض بنية حسنة ورغبة صادقة في الإصلاح فإنهما إن كانا كذلك أعانهما الله ووفق بين الزوجين بسببهما ويرفع ما بينهما من العداوة والشقاق ، وأن كان بعض المفسرين قد اعتبر ضمير المثنى في قوله تعالى : ( إن يريدا إصلاحا ) عائد الى الزوجين أي إذا كانت نية الزوجين الإصلاح بدون عناد او لجاج فسوف يوفق الله بينهما .
ومن أجل تحذير الحكمين وحثّهما على استخدام حسن النية فإن الله سبحانه يقول في ختام الآية (ان الله كان عليما خبيرا ) .
انّها محكمة تؤسسها العائلة من أجل التوفيق والإصلاح وتعتبر من مبتكرات الإسلام العظيمة وتتميز هذه المحكمة بميزات تفتقر اليها المحاكم الأخرى يمكن إيجازها بما يلي :
1ـ إن العمل في هذه المحكمة يكون على أساس المحبة والعاطفة بعكس المحاكم الجنائية التي لا تلتفت الى هذا الجانب بل يكون عملها على أساس القوانين الجافه الصارمة والخالية من روح العاطفة ، لذا يأمرنا القرآن ان يكون الحكمان من أهل الزوجين وممن تربطهما بهما رابطة النسب والقرابة ليتمكنا من تحريك المشاعر والأحاسيس باتجاه الإصلاح بين الزوجين .
2ـ إن الزوجين باعتبارهما مدّعي ومدّعي عليه في حالة الشقاق ؛ فسوف يحاول كل منهما الدفاع عن نفسه مما يؤدي الى كشف كل ما لديهما من أسرار، وإن كشف تلك الأسرار في المحكمة الجنائية وأمام الغرباء سوف يؤدي الى الحرج الشديد، وجرح كل منهما مشاعر الآخر ، فلو حصل الصلح وعادت الحياة الزوجية بينهما فإن الصفاء والمحبة لن يبقيا على ما كانا عليه سابقا وسوف يعيشان في المستقبل كشخصين غريبين مجبرين على الحياة تحت سقف واحد والقيام بوظائف معينة ، اما في محاكم الصلح العائلية فإن الحياء من الحكمين القريبين سوف يمنع الزوجين من البوح بأي اسرار ، وحتى لو طرحت بعض الأمور فإنها تطرح في جو عائلي فلا تنطوي على ذلك الأثر السيئ .
3ـ الحاكم في المحاكم الجنائية عادة لا يشعر بالمسؤولية الكاملة تجاه الزوجين ، ولا تهمه كيف تنتهي القضية ، هل سيعود الزوجان لبعضهما او سينفصلان بالطلاق وبالتالي ستنهدم الأسرة وتتشتت العائلة ، في حين إن الحكمين في محكمة الصلح العائلية يهمهما مستقبل العائلة بحكم القرابة مما يجعلهما يسعيان جهد إمكانهما لتحقيق السلام والوئام بين الزوجين وإنقاذ الزواج من الانهيار .
4ـ محكمة العائلة لا تحتاج الى ميزانية باهظة وتستطيع القيام بعملها وتحقيق اهدافها بأقل ما يمكن من التكاليف المادية .



ما هي صفات الحكمين ؟
يجب ان يكون اختيار الحكمين من الأشخاص المحنّكين ذوي التجربة والحكمة وأن يكونا معروفين في عائلتي الزوجين بالفهم وحسن التعقل بعيدان عن التحيّز او الميل لأحد الطرفين لكي يستطيعا كسب ثقتهما ولذا فإن الآية تختتم بقوله تعالى :
(إنَّ اللهَ كان عليماً خبيراً ) أي عليم بما يريد الحكمان من الإفساد او الإصلاح ، كما إنه تعالى خبير بما فيه مصلحة الإنسان ومنفعته .
ثانيا : البحث الفقهي
يقول السيد السيستاني (حفظه الله ) في المنهاج المسألة 362 : إذا وقع النشوز من الزوجين ومنافرة وشقاق بين الطرفين بعث الحاكم حكمين ، حكماً من جانب الزوج وحكماً من جانب الزوجة للإصلاح ورفع الشقاق بما يراه صلاحا من الجمع أو الفراق بإذنهما كما يأتي .
ويجب عليهما البحث والاجتهاد في حالهما وفيما هو السبب والعلة لحصول الشقاق بينهما ، ثم يسعيان في أمرهما فكلما استقر عليه رأيهما وحكما به نفذ على الزوجين ويلزم عليهما الرضا به بشرط كونه سائغا ، كما لو شرطا على الزوج أن يسكن الزوجة في البلد الفلاني أوفي مسكن مخصوص أو عند أبويها أو لا يسكن معها في الدار أمه أو أخته ولو في بيت منفرد او لا تسكن معها ضرّتها في دار واحدة ونحو ذلك ، أو شرطا عليها أن تؤجّله بالمهر الحالّ إلى أجل أو تردّ عليه ما قبضته قرضا ونحو ذلك بخلاف ما إذا كان غير سائغ كما إذا شرطا عليه ترك بعض حقوق الضرّة من قسم أو نفقة أو غيرهما .
من المسألة السابقة يتضح لنا إن حكم الحكمين ينفذ في الطالبات السائغة والمعقولة التي لا توقع ظلما على أي طرف سواء دخل العلاقة الزوجية أو خارجها .
هل للحكمين صلاحية التفريق بين الزوجين ؟
يقول السيد السيستاني (حفظه الله) في المسألة 363 : إذا اجتمع الحكمان على التفريق بفدية أو بدونها لم ينفذ حكمهما بذلك إلا إذا شرطا عليهما حين بعثهما بأنهما إن شاءا جمعا وإن شاءا فرّقا ، أو استأذناهما في الطلاق وبذل الفدية حينما يريدان ذلك ، وحيث إن التفرّق لا يكون إلّا بالطلاق فلا بد من وقوعه عند اجتماع الشرائط بأن يقع في طهر لم يواقعها فيه وعند حضور العدلين وغير ذلك .
هل يشترط أن يكون الحكمان من أهل الزوجين ؟
يجيب السيد السيستاني (حفظه الله ) على هذا التساؤل في المسألة 364 : الأحوط أن يكون الحكمان من أهل الطرفين بأن يكون حكماً من اهله وحكماً من أهلها ، فإن لم يكن لهما أهل أو لم يكن أهلهما أهلاً لهذا الأمر تعيّن من غيرهم ، ولا يُعتبر أن يكون من جانب كل منهما حكما واحدا بل لو اقتضت المصلحة بعث أزيد تعيّن .
في بعض الأحيان قد يكون الخلاف من القوة والتجذّر بين الزوجين بحيث يفشل الحكمان في حل النزاع أو قد يختلفان فهل تتوقف مساعي الإصلاح عند ذلك ؟
يقول السيد السيستاني ( حفظه الله ) في المسألة 365 :
إذا اختلف الحكمان بعث الحاكم حكمين آخرين حتى يتّفقا على شيء .
كل هذه التفاصيل الفقهية تدل على مدى حرص الشارع المقدس على إدامة العلاقة الزوجية ، وعدم التفريط بها وهدمها عند أول هبوب لرياح الاختلاف والنزاع .
ما الفرق بين الشقاق والنشوز ؟
الشقاق هو نفور وعداوة من كلا الزوجين لبعضهما بحيث تتعسر الحياة الزوجية أما النشوز فهو نفور من أحد الطرفين الزوجة أو الزوج وقد بينت التشريعات الإسلامية الحلول الناجحة لكل حالة بدقة ، وبما يتناسب مع التكوين النفسي لكل من الرجل والمرأة .
مما تقدّم يتبين لنا مدى حرص الإسلام على استمرار الرباط الزوجي المقدّس ؛ فهو لا يضحّي به بسرعة عند أدنى نزاع لذا نجد أن الآية تقول : ( خفتم ) اي بمجرد الخشية من وقوع الشقاق ، وعند أول بادرة للخلاف بين الزوجين يجب الإسراع في حلها بحكمة وتعقّل قبل ان ينجرّ الأمر إلى الطلاق المبغوض في الشريعة الإسلامية .



المصادر :
1- منهاج الصالحين للسيد السيستاني (حفظه الله )
2- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل / ناصر كمارم الشيرازي
3- مجمع البيان لعلوم القرآن / الفضل بن الحسن الطبرسي


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا المساجد هي المباني الوحيدة الناجية من تسونامي إندونيسيا؟

كيف تختبر محبة الله تعالى والأنس به في نفسك