« رَوُّحوا القلوب، فإنّ القلب إذا أُكرِه عَمِي


عصراً بعد عصر، وجيلاً بعد جيل، أخذت متاعب الحياة تزداد، وأمور الناس تتعقّد، والمشاكل تتفاقم في علاقات البشر وحالاتهم وابتلاءاتهم بالنكبات والأمراض. وعلى كلّ حال، فإنّ أمير المؤمنين عليه السلام نصح سابقاً، قائلاً: « رَوُّحوا القلوب، فإنّ القلب إذا أُكرِه عَمِي » ( شرح مئة كلمة لابن ميثم البحراني:165 )، كذلك سبق مِن رسول الله صلّى الله عليه وآله أن قال: « إنّ هذه القلوبَ تَمَلّ كما تَمَلّ الأبدان، فاهدوا إليها طرائفَ الحِكَم » ( غوالي اللآلي لابن أبي جمهور 295:1 / ح 193 ).
ومن هنا كانت ساعات الفراغ للترفيه والاستحمام والاستراحة، وتجديد حالات النفس، من خلال: السفر، ومجالس السرور والحديث الطريف الظريف، والحكايات المؤنسة التي لا تخلو من حكمةٍ وموعظة. والحكمة كما يُعرّفها الإمام عليّ عليه السلام: « روضةُ العقلاء، ونُزهة النبلاء » ( غرر الحكم للآمدي / ح 1715 ).
ومرّة ـ أيّها الإخوة الأعزّة ـ تكون الحكمة نيّرة عبارةً، ومرّة تُستخلَص من قصّةٍ أو واقعةٍ حدثت يتسفيدها العاقل حكمةً وهنا اخترنا من أخبار التاريخ وكتب السيرة والأدب ما فيه حِكَمٌ مُستطرَفة، مؤنسة ونافعة في الوقت ذاته.
لمّا وقع خصامٌ وصِدام بين الملك إسماعيل سلطان الشام وبين ابن عمّه الملك نجم الدين بن أيّوب سلطان مصر، استعان الملك إسماعيل بملوك الصليبيّين الإفرنج على ابن عمّه، وقدّم لهم جزاء نصرهم له أجزاءً مهمّة من بلاد المسلمين في الشام، كقلعة ( صفد ) وقلعة ( الشقيف ) و ( جبل عامل ) وسائر بلاد الساحل.
فغضب أحد علماء عصره واسمه ( العزّ بن عبدالسلام ) ورقي المنبر وأعلن أمام الناس وبمحضرٍ من الملك نفسه استنكاره الشديد لهذا العمل الشنيع ولهذه الخيانة العظمى، وقال بصراحةٍ وشجاعة: إنّ الملك قد خان الأمانة وخان الأمّة، والخائن لا ولاية له! فأعلن بذلك عزل الملك عن الحكم. فما أن نزل من المنبر حتّى قبض عليه جنود الملك وأودعوه السجن، فهاج الناس واضطرب العلماء، فأراد الملك إسماعيل أن يُصدر عفوه عن ( العزّ ) بشرط أن يُظهر الشيخ العزّ توبتَه واحترامه له، فبعث إليه رسوله يقول له: ( ما بينك وبين أن تعود
إلى منصبك وزيادة إلاّ أن تعتذر للسلطان وتقبّل يده ). فصرخ الشيخ في وجهه وقال له:
ـ يا مسكين! ما أرضى أن يُقبّل هو يدي، فضلاً عن أن أُقبّلَ أنا يدَه! وبعد أيّام جاء وفد من الإفرنج وبينهم بعض ملوكهم إلى الملك إسماعيل، وكان الشيخ العزّ مسجوناً في مكانٍ قريبٍ من مجلسه وهو يقرأ القرآن، فقال الملك لهم: هل تسمعون هذا الرجل ؟ قالوا: نعم، قال: هذا أكبر علماء المسلمين، سجَنتُه لإنكاره علَيّ تسليمي بعضَ بلاد المسلمين لكم، وعزلتُه عن جميع مناصبه. وإذا بملوك الإفرنج يُجيبونه بالقول:
ـ لو كان هذا قِسّيسَنا لَغسَلنا رِجلَيه وشرِبنا ماء غسيليهما!
وما مضت إلاّ أيّام حتّى انكسر الملك الخائن في معاركه وفرّ هارباً ذليلاً.
جاء في الحديث المأثور: « النجاة في الصِّدق »، ومصاديقه كثيرة في الحوادث التاريخيّة، منها:
أنّ الحجّاج بن يوسف الثقفي الذي عُرِف بظلمه وقساوته، قبض على جماعة يريد قتلَهم، فقام إليه أحدهم يقول له:
ـ إنّ لي عليك حقّاً فلا تَقتُلْني. قال الحجّاج: ما هو ؟! قال:
ـ كان رجلٌ يَسبُّك في بعض الأيّام وكنتُ أدافع عنك. فسأله الحجّاج:
ـ ألَك شهود ؟
فقام أحد المتّهمين وشهد بأنّه سمع منه ذلك، فأطلق الحجّاج سراح ذلك الرجل، لكنّه التفت إلى الشاهد يسائله: لماذا أنت لم تدافع عنّي حين سمعتَ ذاك يسبّني ؟! فأجابه الشاهد: لأنّي أكرهك.
فتعجّب الحجّاج من صدقه وشجاعته، فخلّى سبيله.
ومنها: أنّ الحجّاج خطب يوماً فأطال في خطبته، فقام إليه رجلٌ يعترضه قائلاً:
ـ أيُّها الأمير! الصلاة، فإنّ الوقتَ لا ينتظرك، والربَّ لا يعذرك. فأمر الحجّاج بحبسه، فأتاه قومُ الرجل زاعمين أنّه مجنون؛ ليُطلق سراحه، فقال الحجّاج: إن أَقَرّ هو أنّه مجنون أطلقتُه. فلمّا طلب منه قومه أن يُقرّ بالجنون أمام الحجّاج أبى وقال:
ـ مَعاذَ الله! لا أزعم أنّ الله ابتلاني وقد عافاني.
أي لا أتّهم الله تعالى أنّه ابتلاني بالجنون وقد أنعَمَ علَيّ بالعقل، فأُحرِج الحجّاج هنا، وتعجّب من شجاعته وصدقه وإصراره على البقاء في السجن دون أن يتّهم اللهَ عزّوجلّ، فعفا عنه كسباً لودّ قومه.
قيل: إنّ أحد أمراء العرب سُرق منه بعير، فاتّهم رجلين بذلك ولكنّه لم يستطع تعيين السارق منهما، فاستدعى حكيم القوم وسأله كيف يميّز بينهما ليمسك السارق ويُطلق البريء، فطلب الحكيم من الأمير إحضارهما، فلمّا أحضرهما قدّم لهما الحكيم طعاماً جافّاً وأمرهما أن يمضغاه ويَزدَرِداه، ثمّ قال للأمير بصوتٍ خافت:
ـ إنّ البريء سيتناول الطعام الجافّ بسهولة، لكنّ السارق لا يستطيع ذلك إلاّ بمشقّةٍ وعسر.
فلمّا تحقّق للأمير ذلك أمسك على الثاني وشدّد عليه حتّى اعترف له، ثمّ عاد على الحكيم يسأله عن سرّ ذلك، فأخبره أنّ الخوف يسبّب جفاف الحلق وعدم إفراز الغُدد اللعابيّة، فيكون تناول الطعام الجافّ صعباً على الخائف الذي سرق وتوقّع أن ينكشف أمره.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا المساجد هي المباني الوحيدة الناجية من تسونامي إندونيسيا؟

كيف تختبر محبة الله تعالى والأنس به في نفسك